بعد مرور شهور وسنوات وربما أيام على بداية معرفتك لطريق الله عز وجلَّ وإلتزامك به، مازال حالِك غير مستقر مع الله تعالى .. تمر عليكِ مواسم الطاعات فتنشطين وتتقربين إلى الله جلَّ وعلا بكل ما أوتيتِ من قوة، وبعد إنقضائها تعودين إلى نفس مألوفاتِك وعاداتِك وتطلعاتِك الدنيوية بعد أن كنتِ قد تذوقتِ حلاوة الطاعة والقرب من ربك الرحيم الرحمن ..
يقول أهل العلم "أعظم العقوبة أن يسلَّب المرء النعمة بعد العطاء، ولو لم يكن من العقوبة إلا منع المزيد من السير أو الترقي لكان كافيًا .. لأنه لو لم يكن المرء في زيادة فهو في نقصان، ومن كان يومه شرًا من أمسه فهو في الخسران"
بعد أن ذقتِ الترقي، كيف ترضين بالدنية؟ كيف ترضين بالنقصان والخسران؟
بنا نقف مع أنفسنا وقفة للمحاسبة والمعاتبة، لعل الله أن يبصرنا بعيوبنا .. ومن ستكتشف عيبها وتعرف كيفية علاجه، هي الفائزة على الدوام .. وأما من سترضى بالبعاد والركون إلى الدنيا، فلتعلم أن الله سبحانه وتعالى سريع العقاب لكل من يولي الأدبار ..
الآفة الأولى: العمل دون نية .. يقول الله عز وجلَّ { قل إِنَّ صَلَاتِي وَنسكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أمِرت ..} [الأنعام: 162,163] .. فكل عمل تقومين به لابد أن يكون بنية خالصة لله عز وجلَّ، وإلا سيكون عملك مجرد هباءً منثورًا ..
لذا يجب أن يكون لديكِ هدف أسمى، ألا وهو طلب الرضا والقرب من الله جلَّ وعلا .. وقبل أن تبدأي في أي عمل تحتسبين الأجر عند الله عز وجلَّ، وتلحيِّن على نفسك بهذا المعنى كي ترزقي النية الصالحة ويزيد رصيدك عند الله تعالى.
الآفة الثانية: تعلق القلب بغير الله عز وجلَّ .. يقول تعالى {قل إِن كَانَ آَبَاؤكم وَأَبنَاؤكم وَإِخوَانكم وَأَزوَاجكم وَعَشِيرَتكم وَأَموَالٌ اقتَرَفتموهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِن تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكم مِنَ اللَّهِ وَرَسولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصوا حَتَّى يَأتِيَ اللَّه بِأَمرِهِ وَاللَّه لَا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] .. فإن تعلق القلب بغير الله تعلقًا مذمومًا، من أعظم مفسدات القلوب .. يقول ابن القيم "وقد قضى الله تعالى قضاء لا يرد ولا يدفع، أن من أحب شيئًا سواه عذِب به ولابد، وأن من خاف غيره سلِط عليه، وأن من أشتغل بشيء غيره كان شؤمًا عليه، ومن آثر غيره عليه لم يبارك فيه، ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه"
فعليكِ بوقفة مناجــــاة وتبتل، حتى يتعرَّف القلب على الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته .. فيشعر بمدى كرمه وإجلاله، ومدى فضله ومنته وإحسانه عليه .. فتستحي نفسك من الركون إلى غير الله تعالى، لأن الأصل في بني الإنسان العيب والنقصان والكمال كله لله وحده.
الآفة الثالثة: اتبــــاع الهوى .. فإن كنتِ تطيعين نفسك في كل ما تأمركِ به، وليست كل أفعالك وفقًا لهدي النبي ..
فلابد أن تخالفي هواكِ ويكون الشرع هو الحاكم في كل حياتِك .. وتكون سنة النبي هي الميزان الذي تزنين به كل الأمور، مهما كان هذا الأمر شاقًا على نفسك .. فقد قال تعالى {إِنَّمَا كَانَ قَولَ المؤمِنِينَ إِذَا دعوا إِلَى اللَّهِ وَرَسولِهِ لِيَحكمَ بَينَهم أَن يَقولوا سَمِعنَا وَأَطَعنَا وَأولَئِكَ هم المفلِحونَ، وَمَن يطِعِ اللَّهَ وَرَسولَه وَيَخشَ اللَّهَ وَيَتَّقهِ فَأولَئِكَ هم الفَائِزونَ} [النور: 51,52] .. فلن تكوني مؤمنة بحق إلا إذا أمتثلتِ لأوامر الله ورسوله وأطعتيها طاعة تامة، سواء وافقت هواكِ أو خالفته .. وحينها فقط تكونين من الفائزين.
فكفانا تشتت وتذبذب، وتعبّدي ربِك بمخالفة أهواءِك،،
الآفة الرابعة: عدم تعظيــم أوامر الله سبحانه وتعالى .. يقول تعالى {ذَلِكَ وَمَن يعَظِّم شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القلوبِ} [الحج: 32] .. فلابد أن يكون الله عز وجلَّ أعظم ما في قلبك، وحينما تتنزل أوامره عليه تجد الإنقياد والإستسلام والإذعان والقبول الفوري.
فعليكِ بكثرة الدعاء .. أن يرزقك الله تعالى تعظيم أوامره ونواهيه، وأن يغرِّس في قلبِك اسمه العظيم وأن يكون في قلبِك الكبير المتعــال .. ذلِّي وانكسري لله تعالى، وتضاعفي إليه حتى تسلمي من هذه الآفة الخطيرة وتصيرين من المتقين الذين هم أكرم خلق الله عنده، قال تعالى {.. إِنَّ أَكرَمَكم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
الآفة الخامسة: التسخط على قدر الله تعالى .. فقد يكون في قلبك ذرة تسخط خفية، قد ألقاها الشيطان فيه فتجعلك لا ترضين من داخلِك عن قدر الله سبحانه وتعالى لكِ ..
رضِّ قلبِك عن ربك .. عليكِ بإدمان قول "رضيــــــت بالله ربـــــًا"، وانظري إلى نفسك بعين النقصان .. فالله عز وجلَّ يعلم ما يصلح لكِ خيرًا منكِ، وقدره سبحانه لا يأتي إلا بخيــر .. يقول تعالى {.. وَعَسَى أَن تَكرَهوا شَيئًا وَهوَ خَيرٌ لَكم وَعَسَى أَن تحِبّوا شَيئًا وَهوَ شَرٌّ لَكم وَاللَّه يَعلَم وَأَنتم لَا تَعلَمونَ} [البقرة: 216]
فضعي يدكِ على الجرح وداوي قلبِك من ذرة التسخط،،
الآفة السادسة: الطمع .. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" [متفق عليه] .. فليس الغنى بكثرة ما تحصلِّيه من متاع الدنيا الزائل.إنما عليكِ أن تداوي قلبِك بالقناعة .. واجعلي طمعك فيما هو خيرٌ وأبقى، في مغفرة الله عز وجلَّ ورحمته .. كما كان يطمع الخليل إبراهيم عليه السلام {وَالَّذِي أَطمَع أَن يَغفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَومَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]
الآفة السابعة: طول الأمل .. وهو من أسباب قسوة القلب، كما قال تعالى {.. فَطَالَ عَلَيهِم الأَمَد فَقَسَت قلوبهم..} [الحديد: 16]
فيا أختاه، قصرِّي أملِك وسارعي في الخيرات وكوني لها من السابقات .. قال رسول الله "بادروا بالأعمال ستا، الدخان والدجال ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة (أي القيامة) وخويصة أحدكم (أي الموت)" [صحيح مسلم]
الآفة الثامنة: الكِبر .. فعندما يقال لكِ الحق تتكبرين وترفضين الإذعان له، رغم عِلمك ببراهينه .. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال "إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس" [رواه مسلم]
تعلمي التواضع لله عز وجلَّ .. ولا تتكبري على أخواتِك وتفتخرين أمامهم بما قد مَنَّ الله عليكِ به من نِعَم، فقد قال تعالى {.. وَاخفِض جَنَاحَكَ لِلمؤمِنِينَ} [الحجر: 88] .. وقال رسول الله ".. ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" [رواه مسلم] ..