ينبغي أن نتوجّه بالشكر إلى الذين نظموا رحلة «أسطول الحرية»، لأنهم أيقظونا من سُباتنا وغيبوبتنا، وذكّرونا بقطاع غزة والحصار الإجرامي المضروب عليه، بعدما كاد كثيرون منا ينسون الموضوع في ظل التعتيم والتشويه اللذين نتعرض لهما منذ ثلاث سنوات، ذلك أن ما جرى أعاد فضيحة الحصار إلى عناوين الصحف وصدارة قنوات الأنباء في أنحاء العالم، وفضح الصمت الإعلامي الرسمي العربي، الذي اشترك في الحصار، جنبا إلى جنب مع الإسهام في الحصار على الأرض، من خلال إغلاق معبر رفح وهدم الأنفاق وبناء السور الفولاذي الذي أريد به قطع الطريق على وصول أي إمدادات إلى غزة.
الأمر لا يُفسر إلا بمفارقات الأقدار وسخرياتها، ذلك أن الجهد الذي بُذل خلال السنوات الثلاث الأخيرة بوجه أخص، لاعتبار الحصار أمرا عاديا وأسلوب حياة مقبولا وغير مستغرب في العالم العربي، كما اعتبر تقديم العون للمحاصرين تهمة يلاحق البعض بسببها، فيعتقلون وتلفق لهم القضايا، أما الذين عبروا عن تضامنهم مع المحاصرين، فإن «جريمتهم» كانت من الجسامة بحيث قُدِّم بعضهم إلى المحكمة العسكرية، كما حدث مع الأستاذ مجدي حسين، الذي ينفذ الآن عقوبة السجن لثلاث سنوات بسبب اقترافه تلك «الجريمة»، ليس ذلك فحسب، وإنما جرت محاولة تعبئة الرأي العام لكي يستقبل حديثا عن استئناف مسيرة السلام، ولكي يقتنع بأن إسرائيل لم تعد خطرا ًيهدد العالم العربي، وأن قنابلها النووية ليست سوى قنابل «صديقة»، في حين أن الخطر الحقيقي والدائم مصدره إيران ومشروعها النووي الذي لايزال جنينا في بطن الغيب..
ذلك كله انهار وانفضح الكذب والإفك فيه، دون أن يكون للعرب فيه يد، إذ شاء ربك أن يقوم العجم بما نسيه العرب، وأن يحمل النشطاء الشرفاء في العالم الغربي الأمانة التي فرط فيها «الأشقاء» في العالم العربي، فيعلنون رفض الحصار ويعتبرون إقامته أو الإسهام فيه جريمة أخلاقية وإنسانية قبل أن تكون سياسية ـ ويتنادون فيما بينهم لكي يحملوا بسواعدهم وعلى أكتافهم كل ما قدروا عليه من مؤن وأدوية ومستلزمات لاستئناف الحياة ـ ثم لكي يسعوا إلى كسر الحصار الذي ألفناه ولم نعد نكترث به، عوضوا انكسارنا بما تمتعوا به من شجاعة ونبل، ولم يأبهوا باستسلامنا وانهزامنا، فركبوا سفنهم وقرروا أن يتحدوا غطرسة إسرائيل واستعلاءها.
وحين باغتتهم بهجوم الفجر الدامي، الذي قتلت فيه قواتهم بعض النشطاء وجرحت آخرين واعتقلت الجميع، فإن سخرية الأقدار بلغت ذروتها، إذ انفضح القبح الإسرائيلي وانكشفت الدمامة فيه ليس فقط أمام العرب وحدهم، وإنما أمام العالم أجمع. ولم يكن الإسرائيليون وحدهم الذين سقطوا، وإنما سقط معهم كل «المعتدلين» الذين تحالفوا معهم وراهنوا عليهم، وساعدوهم على تسويف أكذوبة الصديق الإسرائيلي والعدو الإيراني!
صحيح أن العربدة الإسرائيلية ليست جديدة علينا، ولكن الغباء الإسرائيلي هو الذي فاجأنا، ذلك أنهم حين انقضّوا على السفينة «مرمرة»، وفعلوا ما فعلوه ظنا ًمنهم أنهم أجهضوا المسيرة وسحقوا جموع الناشطين، فإنهم عمموا الفضيحة وخسروا معركتهم سياسيا ًوإعلاميا ً.
ذلك أنهم لم ينقضّوا عليهم ويقتلوهم في المياه الدولية فحسب، ولم يفتكوا بهم وهم المدنيون العزل فحسب، ولكنهم أعلنوها حربا ً ضد الشرفاء والنشطاء في العالم بأسره، أولئك الذين قدموا من 40 دولة لمواساة المحاصرين ونصرتهم.